نشأة وتطور الاتصال العمومي عبر التاريخ

المحاضرة (01): نشأة وتطور الاتصال العمومي

  1. تعريف الاتصال العمومي:

قبل التطرق إلى نشأة وتطور الاتصال العمومي يمكن تعريفه على أنه الاتصال الذي تقوم به المؤسسات العمومية والهيئات الحكومية مثل هيئة الرئاسة، الوزارات، المؤسسات العمومية، الإدارة المحلية وغيرها، من خلال عملية نشر المعلومات لفائدة المواطنين المتعلقة بمختلف المجالات والسياسات والقرارات الرسمية من منطلق حق المواطن في الحصول على المعلومة ولتحقيق المصلحة العامة ومحاولة التأثير عليهم لتحقيق استجابة ايجابية. وذلك عبر عدة قنوات منها وسائل الإعلام الرسمية قنوات تلفزيونية أو إذاعات محلية، المواقع الالكترونية الرسمية، صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لهذه الهيئات، البيانات والتقارير الصادرة عنها.

إن الاتصال العمومي يتطلب الدقة والاحتراف، فهو ليس مجرد هواية أو تحرير  الرسائل وتطويرها إنشائيا، إنه يتطلب تحليل المواقف وتكييف الوسائل مع الأهداف، وأن يكون قويا، لأنه يتعلق بخدمة عمومية أو مصلحة عامة.[1]

              ويتميز الاتصال العمومي بأنه تجاوز مجرد تبادل المعلومات بين طرفي الاتصال، بل إنه أوسع من ذلك عندما يحاول التأثير على الآخرين بالإقناع من أجل تعديل المعارف والمواقف والآراء والسلوكيات سعيا نحو مصلحة المجتمع كهدف أساسي له فهو بذلك يستجيب للمصلحة العامة خاصة في مجال مكافحة الآفات الاجتماعية وترويج القيم الأساسية، وهو بذلك يحفز ويدعو كل فرد في المجتمع إلى أخد نصيبه من المسؤولية لمصلحة المجتمع. ويتخذ الاتصال العمومي عدة أشكال من بينها الحملات. [2]

وتعرفه جمعية الاتصال العمومي الفرنسية على كونه مرتبط بمنطقة أو مؤسسة من مؤسسات القطاع العام مركزية كانت أو محلية، يلعب دورا أساسيا في المجتمع، في تجسيد روح وثقافة المواطنة، في النقاش الديمقراطي وفي استخدام المصالح العمومية.  يساهم الاتصال العمومي في التعريف بالعمل الذي تقوم به السلطات العمومية الوطنية أو المحلية. ومن حيث الجمهور المستهدف فهو يتوجه إلى السكان، المواطنون، المستخدمين، أولئك الذين يدفعون الضرائب. ومن حيث الهدف، يسعى الاتصال العمومي إلى  إعلام ومشاركة المواطنين في الحياة السياسية والحركة التنموية الاقتصادية والاجتماعية، تقريب مصالح الخدمة العمومية من المواطنين، خلق النشاط والديناميكية في التنمية المحلية ومرافقة المشاريع واستمالة المواطنين للنقاش العام، التعريف بالشؤون والقضايا ذات المصلحة العامة والتشجيع على السلوكيات المسؤولة والمدنية، والمساهمة في تنمية القيم والهويةž لأي منطقة والحفاظ عليها. [3]

              ويعرف الباحثين الرواد في مجال الاتصال العمومي أمثال ميشال بوشون، على أنه مجموعة من الظواهر الخاصة بإنتاج ومعالجة ونشر المعلومات التي تعكس ردود الفعل، وخلق وتوجيه المناقشات حول الرهانات العامة، والاتصال العمومي ليس فقط نشاط اتصالي خاص بممارسات وسائل الإعلام وإنما هو قضية خاصة بجميع الفاعلين بما في ذلك المجتمع المدني.

              ومن جهة أخرى يرى Michel Le Net أن الاتصال العمومي يهدف إلى تغيير كل ما هو سلبي من معارف وأراء وسلوكات الأفراد في مجالات متعددة كمحاربة الرشوة، والبيروقراطية، وتقدير ورَدّ الاعتبار للعمل المتقن…الخ ويؤكد لونات أنّ هناك ارتباط وثيق بين الاتصال العمومي وإشراك المواطنين في صيرورة انجاز المشاريع التنموية بغية إضفاء الشفافية والتدعيم وخاصة أنّه يقوم بدورٍ أساسي في إعطاء قدر من الاعتبار والأهمية لرأي وموقف سكان المنطقة أو إقليم معين اتجاه مشروع أو قرار معين.[4]

              كثيرا ما يشار إلى الاتصال العمومي على أنه تبادل للمعلومات، فالاتصال لا يعني الإعلام والاستعلام فقط وإنما يعني الإقناع، أي تغيير آراء و سلوك الآخرين. وكثيرا ما يستعمل كمرادف للاتصال الاجتماعي، فالاتصال يصبح اجتماعيا عندما يبحث عن تغيير أو تعديل لصالح المجتمع برمته، فالاتصال العمومي(الاجتماعي) هو علم نقل الأفكار الجديدة من طرف إلى طرف ثاني، وانه الركيزة الأولى للسلطة التي تستعمله من اجل تطوير المعارف ودفع الوعي الاجتماعي عن طريق  المنظمات العمومية أو الجمعيات التي تخدم المجتمع بصفة عامة.[5]

  1. نشأة وتطور الاتصال العمومي :

             هناك من يرجع ظهور مفهوم الاتصال العمومي  كان في أعمال  عالم الاتصال الأمريكي  ولبر شرام  سنوات الخمسينات والستينات،  والتي تجسدت في شكل حملات واسعة  سماها بحملات  الاتصال العمومي  تمت مباشرتها  بهدف إقناع الناس بسلوكيات ما يمكن في النهاية قياسها  عبر وسائل منهجية  ولكن هذه الحملات التي جاءت مكهربة  مرتبطة بالحرب الباردة  وكانت السمة الغالبة عليها هي الدعاية  لذلك وجه برنارد مياج انتقادات للقول بأن شرام يعد المؤسس الفعلي للاتصال العمومي  ودعى تعقيبا على ذلك إلى ضرورة الفصل  بين الاتصال العمومي والسياسي مبرزا بأنه لا بد من عدم الخلط بين العمومي  والسياسي في الاتصال، حيث أن الاتصال العمومي  متعدد الأبعاد  ولكن أهدافه متناسقة  ومنسجمة لا مجال  فيها للتنافس،  التناقض كخاصية  أساسية للاتصال العمومي إذن هو ليس اتصالا تسويقيا  ولا دعائيا  ولا سياسيا  وإنما هو شيء مختلف تماما. ويمكن رصد أول منعرج تاريخي في تطور الاتصال العمومي لحظة توقيع معاهدة “واست فاليا” في 1648 وهي المعاهدة التي انتقلت بأشكال التجمع البشري نحو أفق جديد وهو الدولة، الأمة، أما المنعرج الثاني لتطور الاتصال العمومي فيكن في ظهور النظام الديمقراطي في الو.م.أ. [6]

              يرى ميشال لونات أن الاتصال العمومي تطور تدريجيا إلى جانب أنماط الاتصال كالدعاية والإشهار التجاري بفضل الانشغالات الاجتماعية واهتمام الحكومات بزيادة استعمال الإعلام من أجل خدمة الأفراد وكيفية استقبالهم لتلك الرسائل الخدماتية ودون اعتراض لغرض إقناعهم بمحتواها والعمل بإرشاداتها وهذا لم يكن ليتم إلا بإعداد جيد للرسائل. وقد بدأت عمليات الاتصال العمومي في فرنسا ثم أوروبا كاتصال يهدف للتثقيف وتعديل الآراء من أجل الوقاية. وبدأت تظهر أولى بوادره بين 1973 و1977 للوقاية من حوادث المرور واقتصاد الطاقة والتربية الصحية[7].

ويرجع ظهور تسمية الاتصال العمومي  لجمعية  الاتصال العمومي Walloni Bruxelles  تم إنشائها  عام 1989 ، حيث سمحت  لهذا الاسم أن يحل محل تسمية الاتصال الاجتماعي  سابقا  ونجاحها في نشر الاسم هو مجاور لمجال  المهنيين والمؤسسات العامة. وقد تطور الاتصال العمومي في نموذجين، النموذج الفرنكوفوني  ويتكرر في  إيطاليا، بلجيكا وفرنسا، ويعتمد على القطاع العام واحتكار الدولة للمجال العمومي بكل قضاياه من خدمات ، مواطنة، تنظيم الحريات، تحقيق المصلحة العامة، وتعتمد ميزانية تمويله على موارد الدولة وتحديدا الضرائب، ومن أهم أسباب تطور هذا الحقل ظهور قضايا المثليين، قضايا انتشار الإيدز في فرنسا والمناداة بحماية حقوقهم حيث تحركت منظمات المجتمع المدني ووجدت الدولة نفسها ملزمة على احتكار الفضاء العام  وإدارة كل ما هو عمومي ، وبذلك فهو اتصال  مقيد وغير تنافسي. أما الحقل الثاني والذي تطور في الدول الأنجلوسكسونية  وتمثله الولايات المتحدة والملكة المتحدة، يغطي المجال العام  بشكل أوسع مشاركة القطاع الخاص  والمؤسسات والحركات،  والجماعات التي تتدخل في الساحات العمومية ، أما في هذا النموذج فالاتصال العمومي غير مقيد وتنافسي.[8]

وقد  اكتسبت نشأة وتطور الاتصال العمومي على مر السنين شرعية حقيقية، واتضحت وظيفته حيث أصبح يساهم في إعطاء معنى للخيارات والإجراءات في المؤسسات ويساعد على إعطاء معنى للحياة العامة والسياسية، ووفقا للمادة 1 من ميثاق الاتصال العمومي الذي اعتمد في عام 2002، “فإنّه وأمام الانفتاح المتزايد لمجتمع المعلومات، أصبحت الاتصالات العامة الآن كضرورة لا مفر منها للمؤسسات  والدول الديمقراطية. ومن وجهة النظر هذه، فإن الاتصال العمومي لم يعد مجرد أداة تقنية لتشكيل السياسة العامة، ولكن نهج شامل يضمن الممارسة الحقيقية للحكامة العمومية”. ووفقا للمادة 2، فإن الاتصال العمومي هو الذي يسجل في إطار برامج إعلام الخدمات العامة، حيث يحترم القواعد السارية سواء الأخلاقية أو القانونية، بحيث يجب أن يمارس خارج الدعاية وتزوير الحقائق من خلال احترام الشفافية في الإعلام حول المعلومات المتاحة سواء بالنسبة لصانعي السياسات أو المستخدمين. [9]

وعموما لا يمكن الحديث عن نشأة وتطور الاتصال العمومي دون الرجوع إلى أصول وتاريخ تنظيم الحياة الاجتماعية… وثمة توجه إلى البحث عن اتصال عمومي متميز. فوجوب الإعلام عن الحقوق والواجبات رافقه التمكين من الاطلاع على الوثائق الإدارية، وتبرير القرارات وعرض نشاطات المؤسسات العمومية، ونشر المعلومات اللازمة للحياة اليومية، بالإضافة إلى المشاركة في الإجراءات الهامة بالدولة.[10]

ويمكن القول أن الاتصال العمومي قد تطور وفق أربع نماذج اتصالية شهيرة، وهي النموذج السلوكي، النموذج النقدي، النموذج التحاوري، والنموذج التقني. وقد أوردتها الباحثة نبيلة بوخبزة في دراستها للاتصال السياسي[11]، وتجدر الإشارة هنا إلى التشابه الكبير، حد التطابق، بين نماذج الاتصال العمومي والاتصال السياسي باعتباره جزء منه، والاختلاف في التسميات التي أصبحت تطلق على هذا النوع من الاتصال منها الاتصال الحكومي واتصال الدولة وغيرها. وعموما يمكن حصر النماذج الأربعة المتعلقة بنشأة وتطور الاتصال العمومي في النقاط التالية:

  • النموذج السلوكي:

يقول Gazenave أن لهذا النموذج علاقة مباشرة بنظرية “الإبرة تحت الجلدية” الذي يعود الفضل في وضـع أسسها إلى lasswell Harold كما لها إرتباط وثيق بأعمال Lazarsfeld في الثلاثينات والأربعينات ، إذ كان ينظر وقتئذ إلى المجتمع كمجتمع جماهيري يتكون من أفراد سلبيين، منعزلين، مذررين ويتقبلون دون مقاومة كل ما تبثـه وسـائل الإعلام من أراء ومواقف ونماذج سلوكية.

يقوم النموذج السلوكي على برنامج بحوث أمبريقية هدفها إثبات أو نفي هذا التصور لعلاقـة وسـائل الإعـلام بالجمهور، لقد لخص lasswell هذا البرنامج في سلسلة من الأسئلة الشهيرة “من، يقول ماذا، بأية قناة وبأي تأثير؟ “. فالاتصال السياسي في هذا النموذج يعرف على كونه علاقة قائمة بين مرسـل (مـن؟ ) و رسـالة (مـاذا؟ ) ومستقبل (لمن؟)، قناة (بأية قناة؟) وذات تأثير (بأي تأثير؟) إذ ينظر هذا التعريف إلى الاتصال كعملية خطيـة لانتقال المعلومات وهو يصب كل اهتمامه على العنصر الأخير من سؤال lasswell وهو عنصر التأثير الذي أستقطب اهتمام معظم الدراسات الإعلامية لما بعد الحرب العالمية الثانية وفي مقدمة التأثيرات التي ستجلب اهتمام الباحثين الذي انصب أساسا على موضوع الدعاية الحربية  lasswell  و فيما بعد انتقل اهتمام الباحثين إلى ما يسمى بتأثير الحملات الانتخابية بفضل الأعمال الذي قام بها  Lazarsfeld  أنذاك، إن هذه الأبحاث كانت بمثابة مقدمـة لظهـور نظريـة التأثير المحدود التي أوضحت بصفة جلية ميكانيزمات مقاومة الأفراد أثناء تعرضهم للوسائل الإعلامية ، لقد كانت هذه النظرية بمثابة النظرية المفندة لنظرية التأثير المفرط أو الإبرة تحت الجلد. إنها ترتكز على المستقبل وميكانيزمـات مقاومة الجمهور لتأثير وسائل الإعلام اعتمادا على ما أسماه هؤلاء الباحثون بانتقائية التعرض، وانتقائية الإدراك وكذا انتقائية التنكر لدى الأفراد فضلا عن متغيرات أخرى كالسن، والانتماء السياسي وشبكة العلاقات الشخصية التي تحد من آثار وسائل الإعلام.

وتؤكد هذه النظرية على أهمية الجماعات الأولية في تكوين الآراء السياسية للأفراد وانتقاء المعلومـات التـي تأتيهم من وسائل الإعلام. وهذا ما جسدته نظرية التدفق على مرحلتين Lazarsfeld  ودور قادة الرأي في الوسـاطة بين وسائل الإعلام والجمهور.

  • النموذج النقدي في نشأة وتطور الاتصال العمومي :

              يرتبط هذا النموذج بأعمال وأفكار مدرسة فرانكفورت التي تضم عددا من المفكرين البارزين وجلهم ألمان ومن بينهم على الخصوص “تيودور أدرنو” و”ماكس هوكهايمير” و”يورغن هابرماس” و”هربرت مركيوز”، فهم فلاسفة أخذوا على عاتقهم مسؤولية رد الاعتبار لمكانة العقل والتفكير العقلاني في المجتمع على غرار فلاسفة القرن الثامن عشر،ـ هؤلاء الفلاسفة لا يعرضون الاتصال كعملية إرسال المعلومات من مرسل إلى مستقبل، ولا يهتمون بمحتوى الرسالة المتبادلة، فالاتصال بالنسبة إليهم هو مجموعة الشروط والظروف التي يتم فيها إنتاج الواقع الاجتماعي عبر تفاعل التصورات الشخصية وإنتاج معاني للواقع والعالم والوجود وإنما يتم من الناحية الاتصالية عند انتقاء موضوعين (فاعلين) من هنا تحتل: اللغة، الحوار، المحاججة أهمية بالغة في النظرية النقدية لتكوين تصور العالم والمجتمع.

              إن هذا الطرح قائم على قوة تأثير وسائل الإعلام، وهي شبه مسلمة بخصوص علاقة الجمهور بوسائل الإعلام مفادها أن وسائل الإعـلام كاملة الجبروت وذات تأثير قوي على الرأي العام مما يجعلها تنظر إلى النموذج السلوكي كالنموذج الاتصالي المهـين، فنظرية مدرسة فرنكفورت تذهب إذن أبعد من Lazarsfeld الذي يرى أن وسائل الإعلام ذات تأثير محدود وأن نموذج lasswell  يبالغ في نظرته لقوة وسائل الإعلام.

  • النموذج التحاوري:

              إن هذا النموذج في نشأة وتطور الاتصال العمومي يظهر ككتلة للنموذج السابق (النقدي) فهو يطرح بصفة معينة المجتمع المثالي، فهذا النموذج يقوم على مبدأ الحوار في الاتصال، فالاتصال بالنسبة لهذا النموذج هو تبادل الحجج بين مختلف الأفراد الذين يشكلون المجتمع. ويرى أن أول خاصية للاتصال العمومي: هو أنه يبنى على العقلانية، فالمعلومات المتبادلة هي عبارة عن حجج عقلانية. والخاصية الثانية: هي أن الاتصال يكون في اتجاهين أي تبادل الأدوار كما بينها سياق العملية الاتصالية وفي هذه النقطة يختلف النموذج الحواري عن النماذج الاتصالية القديمة التي كانت ترى أنه لا يحق لأي مستقبل أن يعبر عن رأيه فهو ليس فرد سلبي، ومن ثمه الغاية من الاتصال العمومي ليس المنفعة الشخصية وإنما المصلحة العامة، وعملية تبادل المعلومات إذن لها هدف محدد هو البحث لما هو صالح لكل المجتمع. وأخيرا، نستخلص هدف الاتصال العمومي في هذا النموذج هو الصالح العام، فتبادل الحجج والبراهين الاقناعية ستجد مبتغاها إلا باكتشاف ما هو للصالح العام وهكذا يكتسب الاتصال هنا صفة العالمية. ومن هنا يتضح أن النموذج الحواري هو نموذج نظري موجه لتحليل ظواهر الاتصال العمومي وهو يصف مجتمعا مثاليا تماما للاتصال الموجود في المجتمعات الحالية.

  • النموذج التقني:

           لقد ظهر هذا النموذج في نشأة وتطور الاتصال العمومي خلال الستينات مع المفكر الكندي الأصل ماكلوهان. و حسب هذا المفكر، فإن وسائل الإعلام هي حقيقة ذات تأثير قوي على الجمهور لكن ماكلوهان يعتبر أن السبب في ذلك لا يكمن في الرسالة وإنما في تقنية الإرسال المستعملة أي في القناة. فهو يرى أن تكنولوجيات الاتصال المهيمنة في عصر معين هي التي تشكل المتغير المستقل (مثلا الطباعة، الراديو والتلفزيون) أما أساليب التفكير وطرق تنظيم المعلومـات فهي تشكل المتغير التابع لمتغير التقنية. وعليه فلا يمكن أن نقول على أن الآراء والمواقف والسلوكات هي التي تتأثر بوسائل الإعلام، لكون هذه الأخيرة وبكل بساطة لا تؤثر مباشرة في محتوى المعلومات والرسائل، فعمليـة ومفعـول وسائل الإعلام يقوم أساسا على كيفية تأطير المعلومات وتنظيم التفكير. ولقد تلقى النموذج التقني وأطروحات ماكلوهان انتقادات لاذعة من طرف مختلف الباحثين ، وهذا راجـع لعدم قبول ماكلوهان نفسه كباحث في الاختصاص من طرف المجموعة العلمية التـي لـم تعتـرف بأعمالـه لافتقارها إلى الأسلوب العلمي من جهة وميلها إلى الخطاب الاستفزازي من جهة أخرى.

              عرفت الفترة الممتدة بين 1966 إلى 1973 أي في الستينات تطورا هائلا في الميدان الصناعي وأدى إلى ظهور المجتمع الاستهلاكي والسوق الصناعية الجديدة المتميزة بالتقنين كالالات التصويرية، الكاميرات المصغرة، الفيديوهات وغيرها من الآلات الإلكترونية التي غمرت السوق أنذاك، وإنبهار الجمهور بهذا التطور التكنولوجي وهذا ما أدى إلى تطور نماذج اتصالية جديدة ذات طابع طوباوي في القارة الأمريكية على يد مارشال ماكلوهان الذي أحدث ثورة في عالم الاتصال. فقد أطلق “رويولان” عن ما أتى به ماكلوهان بالوهم التقني، هذا التيار القوي الذي غير أشياء كثيرة في ميدان الاتصال والذي أعطى للميدان التكنولوجي سلطة قوية، وما هذا التيار بالنسبة “رويلان” إلا عبارة عن افتراضات غير دقيقة. كما أنه نفى سلطة تكنولوجية وانتقد نظرية مارشال ماكلوهان بشدة حيث بين لنا أن الميزات التقنية للوسيلة لا يمكن أن تكون الرسالة ولا تحدد عمليات الاتصال وأن المشاكل التي تعترض الاتصال نجدها على المستوى النفسي الاجتماعي وتاريخية اجتماعية. كما ركز ريلان على أهمية السلوك وأوضح بذلك أن السلوكات الاجتماعية هي الوحيدة التي تمكن من إقرار مستقبل المنظومات الاتصالية أخذا بعين الاعتبار المندمجين في سياق المجتمع والذين يستعملون التكنولوجية.[12]

وعموما يمكن القول أن الولايات المتحدة الأمريكية أول الدول التي اهتمت بأبحاث الاتصال وأخذت دول العالم عنها معظم نظريات الاتصال، كما نقل العالم العربي الكثير من نماذج الاتصال ونظرياته الغربية الأمريكية ومازال يفتقر حتى الآن إلى نظرية عربية خالصة في الاتصال، كما أن هناك ميادين كثيرة للاتصال لم يتطرق إليها الباحثون العرب في هذا المجال وميادين أخرى تحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة. [13]

 

[1] Dominique Mégard, Sur les chemins de la communication publique, Les Cahiers Dynamiques, N035,  2005, Page27.

[2]  عامر أمال، محاضرات في حملات الاتصال العمومي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة غليزان، 2021.

[3]  جمال بوشاقور، دور الاتصال العمومي المحلي في تنمية السياحة بالمدن الداخلية بالجزائر، مجلة الاتصال والصحافة، المدرسة الوطنية العليا للصحافة وعلوم الإعلام: الجزائر، عدد:5، جوان 2016 ، ص123

[4] Michel Le Net, Communication publique : Pratiques des campagnes d’information, La Documentation Française, 1993, P7

[5]  نبيلة بوخبزة، تطبيقات تقنيات الاتصال العمومي المطبقة في الحملات العمومية المتلفزة، أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر03، سنة 2007، ص73.

[6] أنظر: سامية عواج وآخرون، الاتصال العمومي من النظرية إلى التطبيق، دار أسامة، 2018.

[7] أنظر: عامر أمال، محاضرات في حملات الاتصال العمومي، مرجع سابق.

[8] مهري شفيقة، محاضرات اتصال وتسويق عمومي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة سطيف02، سنة 2020.

[9] مهري شفيقة، قضايا ورهانات بحثية راهنة، دار دروب للنشر والتوزيع،القاهرة،  2019، ص299.

[10]  أمير علي فاطمة الزهراء، الاتصال بين الإدارة المحلية والمواطن، رسالة ماجستير، كلية العلوم السياسية والإعلام، جامعة الجزائر3، 2011، ص3.

[11]  أنظر: نبيلة بوخبزة، نماذج الاتصال السياسي عند هيوك كازنيف، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد 15، جوان 2014، ص80-83.

[12] مهري شفيقة، محاضرات اتصال وتسويق عمومي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة سطيف 02، سنة 2020.

[13]  أمال عميرات، اتصال اجتماعي عمومي أو الإعلام والاتصال القيمي، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد08، العدد 1،  2014،  ص373

شارِكنا رأيك بتعليق!

(التعليقات)

زر الذهاب إلى الأعلى