الأمير عبد القادر في قصيدة للشاعر فيكتور هيغو

الجزائر بوابة الشرق الأسطوري الزاخر بأجواء السحرة والكهنة وليالي الملوك والسلاطين والجواري. هذا الشرق الذي ظل حلما من أحلام الرومانسية الأوربية على العموم والرومانسية الفرنسية على الخصوص. بدءا من الناثر العبقري شاتوبریان ومرورا بجيرار دونر فال وفيكتور هيغو ولامارتين وصخرة البنيون وانتهاءا بلوتي كاتب الاستشراقات الاستعمارية في نهاية القرن التاسع عشر.

وإذا كانت الجزائر ذلك الحلم، فانها كانت أيضا عنقودا ناضجا طالما هفت أيادي أوروبا إلى السطو عليه بدءا من صخرة البنيون في قلب المناء حيث عشش الاستعمار الاسباني. ومرورا بحملات شارل الخامس والمغامر دوکاسن وتهديدات أقيال أوربا ونابليون نفسه.

عندما صار الحلم حقيقة بسقوط الجزائر بين جنود الملك لويس فيليب ذهبت نزوة الشعر وتبخرت الطقوس كلها لم تثبت ريشة الفنان دو لاکروا في الميدان إلا زمنا قصيرا وكذلك الشأن مع ريشة خلفه تيودر شاسر یو. بل إنها سقطت من يد زميلهما «دوریفللی» ولم تقو على البقاء بين أصابع «رونوار» الباحث عن الألوان الساطعة إلا اياما معدودات في مطلع القرن الجاري

ذهبت نشوة الحلم إذن، وکذب (بروسبير ميريميه) حين کتب قصته “جمان” عن إحدى الفتيات التلسمانیات دون أن تطأ قدماه الجزائر. “فلوبير” هوسا على هوس حين نزل بهذه البوابة الضخمة للاستشفاء بها نهاية 1847، وتذبذبت عوالم الكسندر دوماس حين جاء الجزائر سنة 1857 لكتابة تحقيق صحفي. وما أسرع ما رکب السفينة وذهب إلى اسبانيا ليكتب عن عوالم الثيران والمصارعة وأنغام القيثارة البللورية.

وبكي “جي دوماباسان” وهو يرى الفواجع الاستعمارية بالجزائر في نهاية الثمانينات من القرن التاسع عشر. واتضح أن بكاءه ذلك كان على نفسه المريضة أكثر مما كان على واقع الحياة في هذه المستعمرة الجنوبية. ولقد نزل بهذه الأرض عشرات من أدباء فرنسا ما بين 1830 وانعطافة القرن العشرين.

وكان من بينهم عدد كبير في صفوف الجيش الاستعماري، وإن عفي الزمن على ذكراهم. وإنك لتقلب صفحات الروايات والدواوین الشعرية والمصنفات التاريخية التي صدرت في غضون تلك الفترة فما تجد انصافا لهذه الجزائر من قبل هؤلاء المتأدبين كلهم. وكيف ينصفونها. وقد رسخ في اذهانهم أنها وكر للقراصنة. وشاطیء من شواطىء الوثنية.

ولكن، ماذا عن فيكتور هيغو هذا الذي يقال عنه اليوم بأنه أکثر الكتاب الفرنسيين ثورية وتقدمية في القرن التاسع عشر؟ عندما سقطت الجمهورية الثانية في شهر ديسمبر 1851 واعتلى نابليون الثالث سدة الحكم، نجا الشاعر بنفسه إلى بروكسيل. ودخل ما يسمى بمرحلة  “المعارضة” في حياته.

ويری بعض نقاد الأدب الفرنسي ومن ضمنهم الشاعر لويس اراغون، أن استحواذ نابليون الثالث على الحكم قد فتح عيني الشاعر على الحقيقة المرة. فقد كان قبلها ملكيا مفرطا في مساندته لها. واستطاعت المرجعية الفرنسية أن تستخدمه في صالحها. وتزج به في خضم الانتخابات التي جرت سنة 1848. وتجعل منه نائبا في البرلمان يصوت على التدابير التي تقاوم كل نزعة إلى التحرر.

ولم يفيء الشاعر إلى طريق الحق إلا بعد أن أبصر بنابليون الثالث يقضي على الجمهورية الثانية. وينصب نفسه امبراطورا على فرنسا. قد يكون “فيكتور هيغو” تقدميا. ولكن تقدميته هذه لا تكاد تتجاوز حدود فرنسا. أي حدود المساحة الحضارية الأوربية.

ودخل شاعرنا هذه المرحلة، مرحلة المعارضة، في أواخر 1851. ولم يخرج منها إلا سنة 1870 بعد سقوط ما يسمى بالامبراطورية الثانية. وكانت جزيرة «جرنسي» الواقعة شمال بحر  “المانش” ملجا له طوال ثمانية عشر عاما. وقد أعلن منذ بداية عهده بالمعارضة أنه يعد دیوانا شعريا بعنوان “العقوبات” يخصص قصائده كلها لهجاء نابليون الثالث وعصابته. وبالفعل، أنجز الشاعر ما وعد.

والأمر الذي يهمنا في مقالتنا هذه هو تبيان موقف الشاعر من الجزائر وهل كان منصفا لها بحكم ثوريته وتقدمیته؟ نقول بادىء ذي بدء بأن هذا الديوان يتضمن قصيدة بعنوان “شرقية”.  وهي عن الأمير عبد القادر ومقابلته لنابليون الثالث.

والقصيدة تفصح عن نفسها بنفسها. وتضع الشاعر في خانته الحقيقية. لقد نظمت في شهر نوفمبر 1852 بعد شهر من إطلاق سراح الأمير عبد القادر من سجن “أمبواز”. إذا علمنا عزم الشاعر على التشهير بنابليون الثالث أدركنا بأنه اتخذ الأمير مطية لبلوغ ماربه.

وقد كان الأمير عبد القادر بالفعل مطية لفيكتور هيغو. وهذه أولى المآخذ على الشاعر. لم يسبق لفيكتور هيغو أن تحدث عن الجزائر قبل ذلك التاريخ. وكيف يتحدث عنها وهو الملكي المغالي في ملكيته؟

وقع الغزو الاستعماري سنة 1830 ولم يتحرك قلم. واستنفرت الجيوش الفرنسية إلى الميدان وظل صامتا. واستمرت الحرب بين الطرفين إلى غاية 1847 وما أشار إليها. لنسایر نقده الأدب الفرنسي ولنقل معهم أن هيغو كان يومها أبعد ما يكون عن الواقع الموضوعي بحكم انتماءاته السياسية المتطرفة.

مع أن هؤلاء النقدة أنفسهم يجمعون على أن حدة النزعة الرومانسية قد بدأت تخفت في أعماق الشاعر منذ 1834. وأن مواقفه الفكرية لم تعد تتمحور على الواقع الذاتي المحض بل صارت تتخذ أبعادا انسانية أشمل. وتجعل من دنيا البشر كلهم مجالا رحبا لابداعه الشعري والروائي معا.

إلا أنه يبدو أن هذا المخاض في أعماق الشاعر قد طال دون فائدة. فهو حتى بعد أن وضع ثلاثيته الشهيرة “البؤساء” سنة 1862 ظل منقطعا إلى عالمه الحضاري الأوروبي، أي العالم المسيحي اليوناني وفيما عدا ذلك، فان الجزائر وما إليها، كانت تندرج في رأیه ضمن مقولة “الشواطیء البربرية الوثنية”. هذه المقولة التي تتردد في كتابات المؤرخين الأوروبيين في ذلك العهد.

يقول فيكتور هيغو في قصيدته هذه:

عندما أبصر عبد القادر وهو في زنزانته بالرجل الضيق العينين

الذي يسميه التاريخ نابليون الثالث عندما أبصر به قادما نحوه

يتبعه القطيع الذي يخدمه -رجل الاليزيه المشبوه- نابليون الثالث

وهو الرجل نمر الصحراء عبد القادر هو السلطان الذي ولد تحت النخيل

رفيق الأساد الحمر الحاج الشرس ذو العينين الهادئتين الأمير المتأمل الضاري اللطيف

هو الشخص العبوس الفتاك الطيف الشاحب ذو البرنس الأبيض الذي ينقض وقد تعطش للتذبیح ثم يهوي ساجدا في الظلام

هو الذي يفتح خيمته على النجوم ويصلي على طرف الطريق هادئا، ويرفع للنجوم يديه الملطختين بالدم البشري

هو الذي يسقي السيوف الحالم الغريب الذي يجلس على الرؤوس المقطوعة

ويتأمل جمال السموات عندما أبصر بتلك النظرة المريبة المخادعة وتلك الجبهة التي أذلها العار

وهو الجندي الجميل والواعظ الرائع قال: من هذا الرجل؟ لقد تردد أمام هذا القناع المنحط ذي الشاربين

غير أنه قيل له:  أنظر أيها الأمير إلى هذه الفؤوس! هذا الرجل هو قيصر قاطع الطرق اسمع الى شكاوي الأمهات هذا الرجل تلعنه الأمهات

وتذمه النسوة جميعا أنه يجعلهن أرامل، ويؤرقهن لقد استولى على فرنسا وقتلها وهو اليوم يأكل جسده. حينذاك ارتفعت يد الحاج بالتحية.

غير أنه في قرارة نفسه كان يذم هذا الخائن السفاح إنه نمر أسود الشدق. يشتم هذا الذئب ويستكرهه.

هذا هو نصيب الأمير عبد القادر في كتابات فيكتور هيغو كلها . حتى المعلومات عنه خاطئة أو هي مشوهة عن عمد. «يصلي ويسفك الدماء» ! ويدلي هيغو ستارا على أعمال بيجو ودوق دورتیان وأباطرة الهجمة الاستعمارية.

ولأن النقاد معجبون بانسانيته، فلنسایرهم مرة ثانية ولنتفق معهم على أن هيغو شاعر تقدمي وانساني النزعة. وأن أفكاره قد تطورت واتخذت منحی انسانيا بعد سقوط الجمهورية الثانية. فهل کتب شيئا عن المجاعات التي عانى منها الجزائريون في الخمسينات والستينات من القرن التاسع عشر؟ هل قال كلمة واحدة عن ثورة 1871؟

ومع ذلك فإن «هيغو» هذا يتحرك حين يصاب بنو جلدته وعقيدته بالضرر. إننا نراه يعلن عن مساندته للكوبيين في تمردهم على الاستعمار الاسباني في شهر جانفي 1870. ولكن انسانيته أو على الأصح، أوربيته تظل هامدة إزاء كل ما يدور في “الشواطىء البربرية”!

ونتعلم من موقفه هذا ومن موقف أدباء فرنسا في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين أن البعد الانساني في الفكر الأوروبي المعاصر إقليمي النزعة. لا يصاب هذا البعد بالتذبذب إلا حينما تصاب أوربا ذاتها في صميم حضارتها.

والأدلة على ذلك كثيرة منذ 1830 أي منذ أن تبلورت في ذهن الإنسان الفرنسي فكرة السيطرة بفعل الحروب النابليونیة ومخلفاتها. ودفعته إلى تحقيق ما عجز عنه منذ سقوط الدولة العربية الإسلامية في الأندلس وإلى غاية يومنا هذا.

نفس الموقف يتكرر على طول هذه الحقبة التاريخية وعلى اتساع الرقعة الحضارية. نجده عند الذين يدعون فهم حقائق التاريخ وعلى رأسهم أندري مالرو في مذكراته المضادة وکلود ليفي ستروس في مداراته الحزينة وغيرهما من عشرات الكتاب.

ولعلنا نلمس هذا الموقف أحسن ما نلمسه لدى هؤلاء الكتاب الذين أصدروا «بیان 121» بمساندة الثورة الجزائرية. لقد أدركوا أن الخطر الداهم أحدق بحضارتهم وصار يهدد فكرة المركزية الأوروبية “الأوربوسونتریسم”. وأدركوا أيضا أن حسن التعامل مع هذا العالم الزاحف هو الذي يسمح لهم بالحفاظ على حضارتهم. تقدمية فيكتور هيغو محدودة جدا. وهي تافهة إنا نحن قسناها بتقدمية کارل مارکس.

ذلك أن «کارل مارکس» نفسه حين جاء إلى الجزائر في نهاية الأربعينات ومطالع الثمانينات من القرن التاسع عشر تاهت به الدروب هو الآخر. ولم يستطع إدراج هذا البلد لا في منظومة الإنتاج الاسيوي ولا الاقطاعي ولا في أية منظومة أخرى. والحقيقة هي أن المسألة أعمق من ذلك كله.

القضية شئنا أم أبينا، صراع بين حضارتين متمایز تین. حين سقطت الجزائر سنة 1830 سقط العالم العربي الاسلامي كله. وحين أشعلت ثورتها سنة 1954 راحت الشعوب العربية الإسلامية تتحرر شيئا فشيئا. أما أسطورة التقدمية في الفكر الأوروبي فانها إن لم تقم على أساس عرقي، قامت على أساس حضاري معين. وهو الأساس المسيحي اليوناني لا غير. ونكون مخطئين إن نحن انتظرنا سندا من هذه التقدمية.

المصدر: هذا المقال للكاتب والصحفي الجزائري مرزاق بقطاش، نشرته مجلة الثقافة في عدد خاص صدر بالمناسبة المئوية لرحيل الأمير عبد القادر سنة 1983.

شارِكنا رأيك بتعليق!

(التعليقات)

زر الذهاب إلى الأعلى