كيف أحرق الفرنسيون قريتنا ؟! شهادة جزائري من بسكرة

اليوم تكون مرت ستون عاما بأيامها ولياليها، على قَنْبَلَة زاوية أولاد سيدي امْحَمَّد، التي تبعد عن مدينة بسكرة بما يزيد قليلا، عن الثلاثين كيلو متر، من طرف إدارة الاحتلال الفرنسي البغيض. ولأني كنت الطفل الذي شاهد بأم عينيه كيف أحرق الفرنسيون قريتنا فضَّلت أن أنقل إلى أصدقائي في هذا الفضاء، ما كنت شهدت به في ملتقى الجمعية الخلدونية للدراسات التاريخية، الذي جرت أشغاله في العشْر الأواخر، من شهر ديسمبر من عام 2019، فاقرءوا وتمَعَّنوا واستخلصوا.

أصَرَّ والدي إبراهيم رحمه الله، في شتاء عام 1960 على ترْك مدينة الجزائر، حيث كان يقيم لبعض الوقت، عند أحد أبنائه الساكن في حي بوزريعة. ربما كان الطقس البارد هو ما جعله يُفكِّر في العودة سريعا إلى الزاوية، حيث الدفء الطبيعي في “عشته” المنصوبة بإحدى غاباتها الخضراء، بنخيلها وأشجار فواكهها المتنوعة.

الطفل الذي كُنْتَه سيبلغ سن التمدرس هذا العام، كنت أزهو فرحا وأنا الموعود بأني سأذهب مع أطفال حومتنا إلى المدرسة، لكن والدي الذي كان يصطحبني معه أينما حل وارتحل، كان له رأي آخر. وقرّر إعادتي معه. ابني سيعود معي، هكذا قالها بحزم لأخي، الذي ترجّاه أن يتركني حتى ألتحق بالمدرسة، في الدخول المدرسي القادم، فلم يسمع له وأصم عنه أذنيْه، كم لم يُرِدْ أن يرى أدمعي وهي تنهمر على خديّ. ولم أجد بُدًّا من الرضوخ إلى رغبة الوالد، فرجعنا إلى المرابع، لنعيش أهوالا لم نكن نرى لها مثيلا في المدينة المتلألئة الأنوار.

العودة إلى الزاوية

رجعنا إلى الزاوية إذن، وعدت إلى العيش في بيت الشعر، التي رعاها الله بين النخيل ولا يحرسها إلا كلب وفيّ كأنه واحد من العائلة. وعدت أنا أيضا إلى عادة حياة أطفال البادية. رميت حذائي الجديد وفضلت المشي حافيا. قد يكون ألحفا يُعطي للأطفال الشعور بالحرية أكثر، كما بدأت التّدرّب على تسلّق النخل، للظفر ببعض التمرات التي بدأت تصْفرّ، لتكون فيما بعد “مْنَقَّرْ” أو “رْطُبْ”.

في المساء يجتمع الأطفال وقد صنعوا من أنفسهم كوكبة بشرية صغيرة، على شكل مربّع أو مستطيل، تُشبِه حرَكة المجاهدين الذين لم نكن نراهم إلا في المساء، منتظمين في سيرهم، متزيِّنين بأسلحتهم، لا تسمع لهم صوتا، لكن الوالد الذي تجاوز الثمانين عاما، لم يكن يرضيه أن يظل طفله موزَّعًا على ما لا يراه مفيدا. أخذني معه ذات عصر إلى جامع سيدي عبر الرحمن الذي يتوسط زاوية أولاد محمد، وبه غرفة لحفظ القرآن الكريم، وهناك تعرّفت أولا على سيدي الطالب، وعلى رفاقي الذين بدأنا معا، رحلة مباركة مع كتاب الله.

اشتباك مع جيش الاستعمار

لا زلت أذكر أنه في أحد أيام ربيع ذلك العام، شاهدت وصول بعض الشاحنات العسكرية، تتقدّمها سيارة جيب، يركبها قائد ثكنة أورلال العسكرية. وكان أزيزها بلغ آذاننا قبل وصولها إلى دشرتنا، قبل أن تحطّ رحالها بها. وبسرعةٍ وقمعٍ وإذلال، وهو السلوك المعتاد، جمع ذلك النقيب كل السكان، بهدف إرغامهم على الانتخاب الذي عزمت فرنسا على إجرائه. ظاهره إدماج الشعب الجزائري في الشعب الفرنسي، للتّمتّع بالحقوق التي كانت من نصيب المُعمِّرين وحدهم، وباطنه عزل الشعب عن ثورته.

ولأن جبهة التحرير الوطني وهي تفاوض من أجل استعادة الاستقلال، رفضت مسعى سلطات الاحتلال الفرنسي، ودعت الجزائريين إلى رفضه رفضا قاطعا، فقد انتفض سكان قرية أولاد محمد، في وجه النقيب الفرنسي، حتى أن إحدى حرائر القرية، ضربته بقنينة على رأسه. سرعان بعدها ما تطوّرت الأمور، بكيفية لم يكن مُخطَّطًا لها.

شرع الأطفال والفتيان في قذف العساكر الفرنسيين، بالطوب والجريد وعصي الطرفة، وكلِّ ما توفّر لهم، لم يجد قائد المجموعة غير الهرب، تحت صيحات الله أكبر، الجزائر حرة مستقلة، وترديد النشيد الخالد: جزائرنا يا بلاد الجدود، ولم أدرِ كيف ظهرت الراية الوطنية، فجأة في أيدي الرجال، الذين التحق بعضهم بالانتفاضة. وعاشت القرية ثلاثة أيام كاملة في استقلال تام، ترتفع الراية الوطنية على نخيل كلِّ مداخلها.

إبادة وتعذيب لسكان القرية

ما إن مضت الأيام الثلاثة، حتى رجع النقيب على رأس قوة عسكرية كبيرة، وأخرج السكان المتناثرين في مختلف البساتين من مساكنهم، وجمّعهم في مكان منبسط، من الناحية الغربية للزاوية، تحت فوهة دبابة كانت تجثم على مرتفع. وكأنه يريد أن يُحطِّم نفسية السكان العزّل، وهو يقول لهم إنه بإمكانه نسفُهم وسحقهم في لحظة كالذباب.

تم عزل الرجال في جهة، والنساءِ والأطفال في جهة أخرى، والعسكر محيطون بهم وهم مصوِّبون لهم بنادقهم، أما قائدهم فكان يتكلم مع رئيسه عبر الراديو بصوتٍ مرتفع. وبعد ما أنهى المكالمة، رمى الراديو وقد ركبته هستيرية من الصراخ والشتم، ثم نزل إلى حيث الرجال جالسون، وبدأ يختار عشوائيا بعض الشباب.

أخرج مجموعة من بين الجلوس، وحشرهم في شاحنة وأمر سائقها بالتحرك، وما هي إلا لحظات حتى سمعنا صوت إطلاق النار، لقد اغتال سبعة من هؤلاء الرجال، في مدخل زاوية بيقو، من بينهم شاب لم يمض على زواجه غير أسبوع. اقتاد بقية الرجال إلى سبخة مائية، تسمى ملح بوبصلة. وراح يُغرق فيها الرجال الواحد بعد الآخر. وساق الأطفال والنساء والعجائز، تحت حراسة عسكره إلى بلدية أورلال، وحرمهم من العودة إلى مساكنهم. وبعد تدخّل بعض أعيان القرى المجاورة، عادوا بعد ثلاثة أيام، ليدفنوا شهداءهم السبعة الذين كان منع دفنهم أيضا.

الهجوم على الزاوية

عاش بعدها أهل زاوية أولاد محمد، أياما عصيبة من الخوف والجوع وانتظار ما ستأتي به أقدارهم، حتى كان ذلك النهار الحار من يوم الجمعة، الموافق للثاني والعشرين من شهر يوليو جويلية، من نفس السنة، يعني سنة 1960. في ذلك اليوم لا أذكر أننا أدّينا صلاة الجمعة، والوقت يومها كان زوالا، وأصواتنا في الكُتّاب تعلو صداحة بكلام الله، وهي تملأ المكان. ولكن سيدي لم يكن كعادته هذه المرة، لم يكن يجلس قبالتنا ويهش بعصاه، عن كل ساهٍ أو عابثٍ أولاهٍ، كما كان يفعل. إنه يدخل الحجرة ويخرج منها وهو ينظر ميمنة وميسرة، كأنما ينتظر شيئا ما.

فجأة دخل القاعة، وحاول أن يغلق الباب الخشبي وراءه، واخترق صوت الرصاص المتقطِّعُ آذاننا، فحاولنا أن نتوقّف، لكنه أمرنا برفع أصواتنا أكثر، حتى يعلو كلام الله على صوت الرصاص، الذي أصبح متواصلا بشكل كبير. وبدا قريبا جدا منا، ونحن على هذه الحال. فتح الجنود الفرنسيون باب حجرتنا بقوة حتى خلناه اقتلع. وأخذ اثنان منهم مكانيهما أحدهما تخفَّى عن يمين الباب، والآخر عن يساره. كانا يرتجفان كلِصَّيْن، وهما يتداولان على إطلاق النار بكثافة، صوب الرحبة.

الرحبة التي تُعتبَر ملتقى لأهل الزاوية وقاصديها من القُرى لمجاورة، يجلس إليها الجميع يتدارسون أحوالهم ويتبادلون أخبار الثورة. ويحاولون تجاوز حالهم المزرية، وهم يتفكَّهون بما يجود عليهم القهواجي.

مضى وقت ليس بالقصير، وبدأ صوت الرصاص يخفت، وتركنا الجنديان وخرجا. ولكن القنابل ازداد دويُّها، مع ارتفاع هدير مُحرِّكات الطائرات، الذي أصبح يصم الأسماع وكأن سماء الرحبة تحوّلت إلى مهبط لها، كلما حاولنا أن نكف عن “التكرار”، إلا وطلب منا سيدي الطالب أن نرفع أصواتنا أكثر، إلى أن عاد لنا جندي، يأمرنا بالخروج جميعا فخرجنا ولم نكن نعرف كيف أحرق الفرنسيون قريتنا بعد.

تدمير وحرق القرية

كيف أحرق الفرنسيون قريتنا يا للهول معظم المساكن مُهدَّمة ولا أثر لأحدٍ إلاّنا، ثم عاد الجندي وأمرنا بالتوقف والاصطفاف واحدا وراء الآخر، ووقفوا هم الآخرون في وضعية استعداد، حتى إذا وصل قائدهم حيوْه فرد عليهم التحية بمثلها، ثم وقف متّجها صوب صومعة الجامع، وأدى له تحية عسكرية.

لم نتبيّن سببها إلا بعد بضعة أيام، حيث سمعنا الكبار يقولون، إن قائد المعركة، أعطى أوامره لقائد إحدى الطائرات كيْ يقنبل المسجد، ولدى شروعه في ذلك سقطت به طائرته مُحترقة، لأنه لم يستوعب أن تكون تلك القلة المقاتلة من المجاهدين، هي مَن أسقط الطائرة، التي ما زالت بقاياها، إلى يوم الناس هذا، كجزء من أطلال الواحة المُدمَّرة.

رأينا كيف أحرق الفرنسيون قريتنا وسمعنا كذلك أن معركة زاوية أولاد محمد، سببها أن وشاية تمّت من أحد الخونة، باجتماع تعقده مجموعة من المجاهدين في ذلك المكان وفي تلك الساعة، جعلت العساكر الفرنسيين، يُسرِعون إلى الدشرة، ويدخلونها من مداخلها الأربعة، من غير أن يسلكوا الطرق المعتادة، التي أقام بها المجاهدون حراسة مكوّنة من رجال ذوي ثقة، مما ترك أولئك الحراس الذين وُضِعوا لمراقبة الطريق، معزولين وغير قادرين على العودة، لإخبار الثوار بما ينتظرهم.

ربما كان العساكر الفرنسيون، يريدون القبض على المجموعة، بعد أن فاجأوها، ووقفوا أمام أفرادها وجها لوجه. ولأنهم مجاهدون لم يخطر ببال أحدهم الاستسلام، فبادروا بإطلاق نار كثيف، حيث أصابوا الفوج المتقدّم وقضوا على أفراده. ودخلوا في قتالٍ أسطوري مع أفواج الدعم المتلاحقة. كانوا واحدا وعشرين رجلا، أداروا المعركة ربما لأكثر من سبع ساعات. كبّدوا فيها العدو خسائر كبرى، في أرواح جنده وعتاده ومعداته، قبل أن ينال عشرون منهم الشهادة، وينجو عمي العربي حمودة وحده، ويُؤجِّل سفره الأخير، والتحاقه برفاقه عند رب العالمين إلى عام 2007.

الكاتب: خليفة بن قارة

شارِكنا رأيك بتعليق!

(التعليقات)

زر الذهاب إلى الأعلى