المهنة التي تمنيت أن يمارسها أبي

في كل مرة أخرج مع أبي في جولة قصيرة أو في رحلة طويلة، يتحول إلى مرشد سياحي بامتياز، يخبرني بأسماء المدن وشوارعها، وماهي التغييرات التي طرأت عليها، ما هو أصل تسميتها وتاريخ بناياتها والمراكز والمعاهد المهنية والمدارس التعليمية الموجودة بها، ومتى تم تدشينها وإذا ما حدث تغيير في نشاطها، وماهي المراكز التي أنشئت في مكانها، وكيف تحولت أخرى إلى مساحات عامة.

لا يفوت أبي شيئا مهما كان صغيرا، كلما مررنا من جهة قدم لي ملفا مفصلا عنها، يخبرني أن الثكنة العسكرية الموجودة عند مدخل المدينة كانت قبل أن أولد مركزا لدراسة العلوم الفلاحية ولماذا فتح بذلك المكان تحديدا في السبعينات وبموجب أي قرار حول إلى وسط المدينة.

يخبرني عندما نمر بالجامعة، أن المساحة التي بنيت عليها كانت حقولا تنتج أجود أنواع البرتقال والعنب، وكيف كان يتم تصديرها عبر الموانىء تحت إشراف الايطاليين الذين عملوا في المدن الساحلية مثل سكيكدة وعنابة، وكيف كانوا يسيرون عملية النقل والتصدير.

في كل خرجة يخبرني أبي إذا كان هذا الطريق التي نسير عليه قد أنجز حديثا أو أنه قديم، إن كان خضع لعملية توسيع مثلا أو تحويل في مساره. عند المرور بمحطة القطار يخبرني عن السلع  والبضائع التي ينقلها، وجهاته نحو المدن المجاورة، وكم تستغرق رحلته عند نقل البضائع.

في الطريق يحدثني أبي عن ملكية الأراضي والمزارع التي تظهر لنا، أيها ملكية عمومية ومن منها ذات الملكية الخاصة، وعن تلك التي تحولت من مزارع عمومية إلى خاصة وكيف اشتراها أصحابها. يشير أبي بيده إلى جبل بعيد ويخبرني كيف كان يربي رئيس البلدية “بال” الفرنسي الخنازير به، وعدد الآبار التي حفرها في المنطقة.

عندما يتوقف أبي في محطة التزود بالوقود، يحدثني عن كيفية نقل البترول وعدد أنانيب النقل التي تم انجازها حديثا، وكيف يتم تزويد المحطات بالبنزين، أخبرني أيضا  كيف تم الاستغناء عن “المازوت الأحمر” الذي كان يستخدم في تعبئة الجرارات والآلات الفلاحية وأنه يتميز بثقله وبالتالي كمية استهلاك أقل، وكيف تم تعميم استخدام “المازوت الأبيض” الذي يستخدم في تعبئة السيارات.

إذا تجاوزنا شاحنة نظر أبي إلى ترقيم السيارة وأخبرني من أي مدينة قادمة وما الذي تحمله، ويحدث أن يتكهن بما يوجد في مبرد الشاحنة التي تسير أمامنا ويتسرب منها الماء، ويراهنني “انها تنقل سمك” يتم جلبه من مدينة الطارف والقالة إلى مختلف الولايات، وعندما نتجاوزها يعبر أبي عن انتصاره مازحا: “هل وصلت إلى أنفك رائحة السمك؟”.

ما تعلمته من خرجاتي المتكررة مع أبي وترحالنا في المدن الجزائرية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها لم أتعلمه في كتب الجغرافيا ولا الثقافة العامة ومقرر التاريخ في المدرسة، ولم أجده في الجرائد والصحف اليومية.

أبي علمني بماذا تشتهر كل منطقة وما الذي كانت تنتجه، ما الذي تغير بها، ما الذي مازالت تحافظ عليه. بفضل أبي تعرفت على الأسواق والمدن الجديدة وأنواع المركبات ومميزاتها والهياكل العمومية والخاصة، المستشفيات، الجامعات، المصانع ومختلف البنايات، وحتى الجبال والمزارع والطرقات.

أبي الذي يبلغ 68 سنة من العمر، عاش طفولته أثناء الاستعمار الفرنسي وعمل في مهن عديدة، عمل في فرق إنقاذ الغرقى وحراسة الشواطىء بالمدن الساحلية وعمل في تركيب أسلاك الكهرباء والغاز في البنايات والسكنات الجديدة، عمل في نقل البضائع من الجنوب، وعمل في مستثمرة فلاحية لسنوات. عمل أبي في التجارة ممولا للجامعات، المستشفيات، المراكز الأمنية مراكز التكوين والمدارس، والشركات الأجنبية في الجزائر… ومع ذلك أفضل مهنة تمنيت لو عمل بها أبي “مرشدي السياحي”.

شارِكنا رأيك بتعليق!

(التعليقات)

زر الذهاب إلى الأعلى