قصة فنان هجر باريس وعاد للجزائر بسبب عجوز

بين الأدب والموسيقى عاش الشاب الجزائري كريم تجاني سنوات طويلة في باريس التي ولد وكبر بها، يسرق منها كل سنة عطلته الصيفية ليقضيها في أحضان طبيعة منطقته المفضلة “قرباز” وفي أحضان عمته نوراة بسكيكدة، وهو لا يعرف أن القدر يرسم له طريقا مختلفا بعيدا عن الألبومات الغنائية، ليدخله عالم البيئة من بابها الواسع من أجل مهمة كبرى عنوانها “حماية البيئة” التي تعلمها على يد هذه المرأة العجوز التي تدعى “نوارة”.

“الطبيعة” في كتاب

بعدما تجول كريم تجاني في ولايات الجزائر ومدنها، ووقف على حقيقة طبيعتها المغتصبة، ودافع بقوة على حماية البيئة ضد المشاريع الإقتصاية التي لا تحترم أولويات الحد من التلوث، من بينها مشروع بناء مركب بتروكيماوي لسونطراك بالمحمية الطبيعية “قرباز” السنة الماضية، وراسل المسؤولين في أعلى الهيئات الحكومية، ونشر مقالات في الصحافة الوطنية، ونجح في وقف جرائم ضد الطبيعة، قرر جمع خبرته في كتاب يحتوي على حوالي خمسين مقالا من أصل 400 مقال كتبها كريم حول التنوع البيئي وأسرار الطبيعة ومعاناتها وما يهددها في مختلف ولايات الوطن.

وإختار كريم تقديم كتابه بطريقة مختلفة، فبدل الإكتفاء بجمع ما كتبه حول البيئة من مقالات، إعتمد على المزاوجة بين المقال وظروف كتابته، فمع كل مقال منشور يقدم الكاتب السياق الذي كتب فيه والحكاية المرتبطة به، وكيف قرر كتابته، وذلك في شكل قصة حية.

كريم تجاني على اليسار رفقة ناشطين في البيئة - فيسبوك
كريم تجاني على اليسار رفقة ناشطين في البيئة – فيسبوك

وهو ما يجعل الكتاب الذي يختصر رحلة كريم تجاني مع البيئة يأخذ طابعا إنسانيا إلى جانب طابعه العلمي والتثقيفي. ويقول كريم في إنتظار صدور كتابه: “الكتاب أخذ كل وقتي هذه السنة، ولكن المهم بالنسبة لي أن تصل المعلومة”. ومن أجل إيصال المعلومة إختار كريم هذه المرة فكرة أن يدافع عن الطبيعة في كتاب، عملا بمدأ قصيدته “الشجرة والعصفور” والتي يقول عنها: “الشجرة تمنح للعصفور ثمارها وتقبل أن تغتصب وهو بدوره ينقل ثمارها لتنبث في مكان آخر، فهو بذلك يعطيها بعدما يأخذ منها، وهذه طريقتي في العمل”.

من هذا المنطلق يعمل كريم، صاحب موقع “نوارة” أول موقع إلكتروني يهتم بالبيئة في الجزائر، على الإقتراب من المثقفين والصحفيين والمهتمين بالبيئة ويقدم لهم الأفكار والمعلومات حول الطبيعة بأكبر قدر ممكن من أجل أن تثمر لاحقا ويستفيذ منها مستقبلا بشكل أفضل. يوضح كريم: “لا أحتفظ بالمعلومة من أجل التميز أو لعب دور القائد، بالعكس أنا فائدتي في انتشار المعلومة  والنتائج تأتي على المدى البعيد ولا يجب أبدا الاستعجال من أجل الحصاد هذا ما تعلمته. الهدف ليس الأساس بل الطريق الذي نسلكه هو الأساس”.

“قرباز” قصة حب

في منطقة “قرباز” المحمية الطبيعية  بولاية سكيكدة، التي تعد واحدة من أهم المناطق الرطبة في شمال إفريقيا ومناطق البحر الأبيض المتوسط، إكتشف كريم تجاني وهو طفل في العاشرة من عمره سحر الطبيعة، تنوعها وجمالها، وتعلق بالمنطقة الجبلية وبحرها منذ زيارتها للمرة الأولى سنة 1982 وتعرفه على عمته نوارة. المرأة التي  تعلم منها أسرار البيئة والحيوانات وخاصة صديقه “مسعود” الحصان الأصيل. ويقول كريم: “كان أبي يأخذني في العطلة الصيفية إلى عنابة وكنت أتشاجر كثيرا مع الأطفال، وفي إحدى المرات قرر معاقبتي فأرسلني مع جدي على متن سيارة  إلى “قرباز” لقد أسدى لي خدمة كبيرة ذلك اليوم لأنني إكتشفت المنطقة التي أحلم بها”.

كريم تجاني مختص في الإيكولوجيا
كريم تجاني مختص في الإيكولوجيا – فيسبوك

بكثير من الحب، يتذكر كريم بعض المواقف الطريفة التي حصلت معه: “عندما كنت في 14 عمري، وبينما كنت أرعى الغنم بقرباز، مر بي رجل وقال لي مستخفا “هل تتكم الانجليزية؟” فأجبته بالانجليزية “طبعا أتكلم الانجليزية” فكانت الصدمة بادية عليه لأن منظري لم يكن يوحي أبدا بذلك”. هكذا مازال يبدو كريم صاحب 40 عاما، لا يشبه الموسيقيين بمظهره البسيط غير المبالغ في أناقته، ويشبه في بساطته الطبيعة كثيرا، التي لا ترضى بغير جمالها الداخلي.

في “قرباز” يحتفظ كريم بذكريات طفولته مع أبناء عمومته والحيوانات التي يحبها وخاصة مع “نوارة” وعذرية الطبيعة في قصة حب ملهمة، يقول كريم عنها: “كل شيء يلهمني بقرباز، صوت الماء، صوت العصافير، الطبيعة… بالنسبة لي الموسيقى هي قرباز وهي مصدر إلهامي.”

عائد من باريس

أثناء العشرية السوداء غاب كريم عن “قرباز” لأكثر من 15 سنة، درس خلالها في باريس الأدب المعاصر لغات وآداب، انجليزية روسية والمانية. وكان قد إختار أن يمارس الموسيقى، ضمن فرقة موسيقية تجمع زملائه بالثانوية، فأصبح يكتب الشعر ويغنيه، قبل أن يقوم بفتح أستوديو خاص بتسجيل الألبومات الغنائية. ويستحضر كريم بداياته مع الموسيقى قائلا: “عندما كنت طفلا اشترت لي أمي قيتارة فكسرتها، فعاقبتي ، وعندما كان عمري 8 سنوات كتبت قصيدة، أعجبت الأستاذ بالمدرسة وشجعني كثيرا ومن يومها وأنا أكتب ثم أصبحت أغني”.

في سنة 2009 عاد كريم إلى قرباز ولكنه لم يجد الطبيعة العذرية التي تركها وظل يحلم بلقائها مجددا. كان المنظر صادما ومختلفا، عذرية الطبيعة التي عشقها اغتصبت وقارورات البلاستيك تملأ الشاطىء الذي يحبه كثيرا وأيضا “مسعود” كان قد إختفى.

شعر كريم أن هذا التلوث يهدده بفقدان جزء مهم من حياته، مصدر إلهامه، شعره والموسيقى أيضا. كان واقعا مزعجا بالنسبة لكريم وهو يرى الناس لا يقومون بأي شيء هناك من أجل تلك الطبيعة التي سحرته لسنوات، غير أن الغائب العائد من فرنسا، شعر أيضا بالمسؤولية إتجاه ما حدث لقرباز، فقرر إستعادتها بطريقته الخاصة،  يقول كريم: “عندما عدت إلى باريس، أخبرت أصدقائي أني قررت ترك الموسيقى والعودة إلى الجزائر، بعد أن يصبح الألبوم الذي كنا نسجله جاهزا. إعتبروني مجنونا ولكن بالنسبة لي “قرباز” هي التي تلهمني الموسيقى وإذا خسرت قرباز فسأخسر في النهاية الموسيقى”.

كان كريم تجاني يؤمن أن قدره ليس أن يبقى موسيقيا، وأن عودته إلى الوطن أصبحت واجبة ويؤكد: “شعرت أن الجزائر تحتاج إلى أبنائها الذين كانوا بالخارج، شباب  لم يتعذبوا من العشرية السوداء ولديهم نفس جديد”. هذه العشرية السوداء، التي غيرت حسب كريم كل شيء، وظلمت الطبيعة كثيرا، فجعلت الناس يخافون منها ويربطونها دائما بالإرهاب.

خطة عمل ذكية

أول ما قام به كريم تجاني بعد عودته إلى قرباز محاولة فهم ما يحصل بالمكان، أخذ صورا وبدأ في طرح الأسئلة، والبحث عبر الأنترنت عن إجابات تشفي غليله، ولأنه لم يجد ما يبحث عنه، قرر أن يفتح موقع خاص ب”قرباز” يجمع فيه ما كتب حول الموضوع، في المدونات أو المقالات الصحفية ويبرر كريم هذه الخطوة: “فكرت أن الأمر يسهل البحث، فإذا أراد أحدهم معلومة عن قرباز يلجأ مباشرة للموقع بدل البحث في مواقع متعددة”.

ومنذ ربيع 2009 أخذ كريم ينتقل من ولاية لأخرى من أجل إكتشاف أسرار الطبيعة في الجزائر وما إذا كانت تشبه قرباز، وهو يعتمد على أساس واحد: “أساعد الآخرين ليساعدونني في إنقاذ منطقتي”. في البداية كان كريم يعمل بلا خطة، مندفعا بعاطفته نحو قرباز، وشيئا بشيئا بدأت الأمور تنتظم والرؤية تتضح، فقام بعدها بوضع خطة، واستراتيجية ليقرر سنة 2010 إطلاق الموقع الإلكتروني “نوارة” الذي يعتبر أول موقع يهتم بالبيئة في الجزائر، والذي يجمع المقالات والدراسات العلمية والتحليلات التي ترتبط بموضوع البيئة، كما يعتبر أيضا شبكة تجمع الفاعلين في مجال البيئة من مختصين وصحفيين وغيرهم. ويقول عن تسمية الموقع: “سميته بإسم المرأة  التي علمتني منذ الطفولة حب الوطن والطبيعة، إنها لا تزال على قيد الحياة، وأنا أزورها بشكل دائم، كما سبق وكتبت عنها قصيدة “وردة الشرق”. نوارة تفرح كثيرا عندما أخبرها أنها أصبحت مشهورة”.

إستطاع الموقع المتخصص بالبيئة، التنمية المستدامة والسياحة البيئية في الجزائر أن يجذب ما يقارب 20 ألف زائر خلال أشهر فقط. وذلك نتيجة عمل 3 أشهر بمقدار 8 ساعات يوميا من أجل جمع المقالات وتصنيفها ووضعها في الموقع.

يقول كريم: “أصبحت أتلقى الكثير من الإتصالات من قبل القراء الذين يراسلونني ويستفسرون حول المواضيع التي أنشرها”. وهكذا بدأ كريم في ربط علاقات صداقة قوية مع المهتمين بالبيئة، طلبة، أساتذة، باحثين، جمعيات وصحفيين، لأنه يمثل لهم مصدر المعلومة التي يبحثون عنها. وتوالت الدعوات، أين زار 22 ولاية وحضر العديد من الملتقيات وقدم الكثير من المداخلات في الصحافة والقنوات التلفزيونية والإذاعية. ولأن كريم تجاني يؤمن بالرسالة التي سخر حياته لها، ظل وفيا للعمل الميداني ومتابعة الوضع عن قرب يقول: “أنا دائم السفر، في سنة 2012 زرت 15 ولاية خلال 6 أشهر، وفي كل ولاية لي  أصدقاء يهتمون بالبيئة”.

حلم يتحقق ومعركة لا تنتهي

شيء من حلم كريم تجاني تحقق ومازال يتحقق ويكبر في موقع “نوارة” وفي الميدان، بعدما نجح السنة الماضية  في وقف مشروع بناء مجمع بتروكيميائي على مساحة 800 هكتار بالمحمية الطبيعية “قرباز”. وسيكبر الحلم أكثر قريبا في كتاب. يقول كريم: “اليوم الكثير من الصحفيين والباحثين والمواطنين أيضا يعرفون قرباز، وهذا في حد ذاته نجاح لي”. هكذا يطبخ كريم تجاني بكثير من الصبر أهدافه على نار هادئة، غير مستعجل لتحقيق نتائج صغيرة، ويطمح لحلول على المدى البعيد، في معركته التي لا تنتهي من أجل الطبيعة، يوضح كريم: “حتى الآن لم تكن لي مشاركات على مستوى الجامعات، لأنها عادة تنظر إلى الشهادة الأكاديمية”.

على خلاف الأكادمين يؤمن كريم أن حلول مشاكلنا البيئية لا تحتاج إلى خبراء من أوروبا لأنها موجودة لدى الفلاحين القدامي في مدننا. ويقول كريم عن هذه النظرة القائمة على البحث عن الحلول من الداخل: “ولدت وتربيت في بلد تحتاج فيه إلى ثلاثة أضعاف ما يلزم الفرنسي لتكون مثله”. ويضيف كريم: “ولتفرض وجودك بينهم، يجب أن تتقن ثقافتهم أحسن منهم”. من هنا فهم كريم أن النجاح يبدأ من الإستثمار في الإنسان، فتعلم الموسيقى بنفسه، كما تعلم أسرار البيئة بنفسه أيضا، وأطلق موقع “نوارة” بمبادرة خاصة منه، ويخطط  السنة المقبلة لإطلاق مشروع جديد، يتمثل في “دار الطبيعة أساسه خلق تواصل بين الفلاحين والناس من أجل خلق ثقافة بيئية. ويقول كريم: “ستكون إنطلاقته المشروع من “قرباز” ثم سنعمل على تعميمه في مناطق مختلفة من ولايات الوطن”.

كريم يملك قناة على اليوتيوب يشارك فيها كل ما يخص الإيكولوجيا اطلق عليها تسمية “دارولوجيا تيفي” يمكنك الاشتراك فيها من هنا

شارِكنا رأيك بتعليق!

(التعليقات)

المصدر
سوبرنوفاnouara-algerie.com
زر الذهاب إلى الأعلى